دبي الماضي
برز اسم دبي كياناً مستقلاً منذ القرن الثامن عشر عندما كانت قرية للصيد والغوص تسكنها قبيلة بني ياس، وحكم آل مكتوم – حكام دبي حتى يومنا هذا – الإمارة منذ عام 1833 عندما جاؤوا إليها من أبو ظبي بقيادة الشيخ مكتوم بن بطي مؤسس إمارة دبي الأولى , وكما هو معروف فإن آل مكتوم عائلة تنتمي إلى قبيلة آل بوفلاسة، القبيلة الياسية المشهورة، وهم سكان أبوظبي أصلاً ، ولقد أثبت الشيخ مكتوم البراعة والكفاءة في تنظيم وإدارة أمور القبيلة، وتوافدت القبائل من بني ياس عامة ومن القبائل الأخرى إلى دبي حتى كثر عددهم ، وبذلك ازداد عدد السكان إلى أضعاف مضاعفة ، وكان لسياسة آل مكتوم الرشيدة تأثير كبير في إنعاش قرية الصيد والغوص وتحويلها إلى مدينة تجارية واسعة.
مثلت دبي في تلك الحقبة أكبر مركز تجاري نشيط ومتطور في المنطقة، ويعود بعض هذا التطور إلى موقع المدينة الحيوي، حيث تقع دبي على شاطئ ميناء طبيعي، ويمثل الخور الذي يمتد عشرة أميال أفضل الموانئ الطبيعية في جنوب الخليج. وقد شكل الخور جزءاً مهماً من الحياة اليومية لسكان دبي القديمة آنذاك ، وخاصة لغواصي اللؤلؤ والتجار وصيادي السمك والبدو ( الذين كانوا يفدون إلى قرى الساحل موسمياً لمزاولة الغوص وصيد السمك علماً أن بعضهم يأتي للاستقرار بشكل دائم أيضاً). ولقد وفر الخور جواً ملائماً لكل هؤلاء مجتمعين للعمل والاستقرار.
وبعد أن استتب الأمن في دبي توافد عليها الناس وأخذت تكبر؛ فانقسمت إلى ثلاث مناطق رئيسة: ديرة على الضفة الشرقية للخور، وهي المنطقة الأكبر والمركز التجاري الرئيس، وبر دبي، والشندغة على الضفة الغربية للخور.وكان يفصل بين الشندغة وبر دبي حاجز رملي يدعى الغبيبة، وعادة ما كان الخور يغمر هذا الحاجز بمياهه عندما يحدث المد. وتقع منطقة الشندغة على شريط طويل من اليابسة يفصل البحر عن الخور، وكانت الشندغة أصغر منطقة من المناطق الثلاث ، وهي عبارة عن منطقة تجمع سكني رئيس، وهي مكان إقامة الحكام من آل مكتوم بمن فيهم الشيخ سعيد رحمه الله( وبيته في منطقة الشندغة إلى اليوم) . ولقد كانت قبيلة بني ياس الأصلية تسكن هذه المنطقة.
حتى منتصف القرن الماضي لم يكن في دبي شبكة طرق رسمية، بل أن طرقها عبارة عن ممرات ترابية ضيقة لا تسمح بمرور السيارات، لذلك كانوا يستخدمون الحمير أو الجمال للتنقل. وبما أنه لم تكن هنالك جسور على الخور تصل بين شطري دبي، فقد ترتب على الناس أن يتحملوا رحلة مضنية للانتقال من ضفة إلى ضفة وذلك بالدوران حول نهاية الخور. وكان يمكنهم أيضاً التنقل بواسطة العبرة، وهي عبارة عن قارب صغير يسير بالتجديف ينقل الناس من ضفة إلى أخرى ، واستخدم الناس ( عبرة) خاصة تنقلهم إلى السفن الراسية بعيداً عن سواحل الخور.
كانت أسواق دبي منذ نشأتها تعج بالبضائع القادمة من كل أنحاء العالم منذ القرن الماضي بسبب نشاط تجارها الملحوظ في ذلك الوقت وإلى اليوم , فقد ذكر كثير من الرحالة الغربيين هذا الأمر على سبيل التعجب . ولقد وصفت السوق في ذلك الوقت بأنها منطقة تجارية تعجُّ بالنشاط والحيوية. وتقع في منطقة ديرة، وتتكون من 350 محلاً تجارياً وبذلك عُد أكبر سوق في المنطقة، ويصل بين هذه المحلات ممرات مسقوفة، حيث يجلس التجار مع بضائعهم في محلات على شكل كوى ـ جمع كوة وهي الفتحة في الجدار ـ وكانوا يستخدمون المصابيح الزيتية لإضاءة مخازنهم أو محلاتهم. وعند الإغلاق يستخدمون هذه المصابيح لإنارة طريق العودة إلى البيوت، ولم يتسن لكثير من أصحاب الحرف امتلاك محلات لمزاولة أعمالهم، ذلك لأن أي بقعة خالية قد تصلح لممارسة أعمالهم..واعتاد الناس أن تعرفهم بأسمائهم وكانت رسالة المنادي تنتقل عبر التجار والناس حتى تصل الشخص المقصود ليأتي للاتفاق مع زبونه. واعتاد الكثير من المارة التوقف لقضاء الصلاة أو الاستراحة في السوق ، و التعرف على الصناع والتجار وشراء بعض حاجاتهم من هناك.
ولقد أنارت المصابيح الزيتية الزجاجية الطرقات والمحلات التجارية قبل معرفة الكهرباء عام 1952، وكان السكان يستوردون الفحم النباتي من داخل عمان ليستخدم في أغراض الطهي وصنع القهوة. ولم تيكن هناك شبكات توزيع للمياه ، فاعتمد السكان على المياه الجوفية، وكانوا يستخرجون الماء من الآبار بطرق يدوية بدائية، ثم تنقل في أوعية وتحمل على ظهور الحمير لتنقل إلى البيوت للاستخدامات البيتية، وبالرغم من أن نقل الماء كان عملاً مضنياً, فقد اعتاد الناس على تناقل الأخبار أثناء تجمعهم عند مورد الماء بانتظار دورهم لملء أوعيتهم، ويرددون أثناء ذلك الأغاني والأهازيج مما يجعله أقل عناءً.
عاش معظم السكان في أكواخ مصنوعة من سعف النخيل، فالعائلات المتمدنة تسكن في مجمع من هذه الأكواخ. وكانت المحلات التجارية الرئيسة مبنية من الجبس (من سبخات الملح عند نهاية الخور) والحجارة المرجانية ( من البحر ومياه الخور الضحلة). واستورد التجار الشُّمع والمنغروف(وهو خشب يؤخذ من شجر استوائي تنبثق من أغصانه جذور جديدة ) من شرق أفريقيا ليستخدم دعامة لسقوف المباني، وكان طول قضبان المنغروف يحدد ارتفاع الشرفة والغرف ذات العرض الضيق غالباً.
وأعلى الأماكن في القرية هي الأبراج الهوائية(البراجيل) للبيوت المبنية من الحجارة المرجانية وأبراج المراقبة وقلعة الفهيدي، كما كانت ساريات السفن ترتفع عالياً ويمكن رؤيتها من البيوت التي تمتد على طول ساحل الخور ويحيط بها أشجار النخيل. وتعد القلعة التي تم بناؤها عام 1799 أقدم بناء مازال قائماً منذ ذلك الزمان, وهي مقر الحاكم حتى عام (1890) و بعدها تم تحويل هذه القلعة إلى سجن. أما الأبراج الهوائية فكانت عبارة عن بناء مستطيل الشكل في داخله زوايا متعاكسة مقعرة على شكل حرف (V) والأبراج الهوائية أو البراجيل تكون مفتوحة من الجهات الأربع حيث يسمح ذلك للهواء بالتحرك إلى أسفل وبهذه الوسيلة يتم تبريد الغرفة. بينما ترش الأرضيات الترابية للبيوت بالماء الذي ما إن يتبخر حتى يعطي برودة تلطف جو الغرف، وعند الاستغناء عن الهواء البارد يتم إغلاق هذه الفتحات.
وكان يغلب على دبي القديمة زخم وافر من تقاليد الماضي التي طبعت الحياة بسمات التعايش والانسجام بين الناس وبيئتهم . وبميناء دبي الزاخر وسوقها المفعم بالحيوية والنشاط التجاري احتفظت دبي على الدوام بمستوى معيشة أفضل من مستويات المعيشة التي توفرت في مدن أخرى بالمنطقة في نفس الفترة.
أصل تسمية دبي بهذا الاسم:
هناك فرضيات كثيرة حول تسمية دبي بهذا الاسم. تقول الفرضية الأولى: إن كلمة دبي هي مزج بين كلمتين فارسيتين هما: “اثنان وأخو” – إشارة إلى ديرة وبر دبي، وهذا على الأرجح ليس صحيحاً، وذلك لأن أصل الأسماء لا يؤخذ بمجرد تشابه الأصوات. وهناك نظرية ثانية تنص على أن كلمة دبي هي تصغير لكلمة “دبا” – التي كانت سوقاً مشهوراً ولقد سميت دبي بهذا الاسم تشبيهاً لها بسوق دبا. وهنالك فرضية ثالثة تنص على أن أصل التسمية جاء من أن العرب تقول :”جاء بدبا دبي أي جاء بمال وفير “، وذلك لأنه كان من المعتقد أن الذين كانوا يفدون إلى دبي يأتون بالمال الوفير نتيجة للازدهار الذي كانت تتمتع به دبي مما جعلها مركزاً تجارياً مزدهراً ومرموقاً. ومن الجدير بالذكر أن هناك منطقة أخرى اسمها دبي تقع في منطقة الدهناء بين الرياض والدمام في المملكة العربية السعودية.
وعلى الرغم من هذه النظريات فإن كثيراً من الباحثين العرب لا يأخذون بتأويل الأسماء رجوعاً للقاعدة اللغوية التي تنص على أن الأسماء لا تعلل بل تؤخذ على ما هي عليه.